المشاركات الشائعة

3/08/2013

مذكرات معمارية

إذا لم يكن بعد شيء اسمه ''العمارة النفسية'' ............ فلا بد أن يكون
تؤمن صفاء بهذا التركيب الذي اختلقته أيام دراستها في كلية العمارة. كتبت مرة بإحدى التويتات أن ثمة حالة معينة مصاحبة لكل عمل معماري و فني، تلك الحالة تعتري الشخص إذا ما وقف أمام تلك الأعمال. كذلك الحالة النفسية التي كان يمر بها المعماري لحظة تصميمه للخطوط الأساسية لعمله تنتقل إلى أجزاء المبنى و من ثم إلى الجمهور و ربما صاحبت مستخدمي المكان إلى مدى طويل.
بالطبع لا يقوم أحد بالتعليق على تلك التويتات التي تنشرها صفاء المعمارية اليافعة، لأنه لم يعد أحد يثق بسلامة عقلها، الحقيقة أنها سمعت أحد الزملاء يقول لزميلته : ما الذي تهذي به زميلتنا صفاء في هذا المسمى تويتر؟ حتما قد تفككت جميع صواميل عقلها!
لكنها لم تعر أولائك انتباهها، فلا زالت تصدق أن مبنى لفرانك جيري بتلك الخطوط الملتفة و الصفائح المعدنية الموضوعة بطرق غير متوقعة.. تحيلها من انسان عادي إلى شخص مرتبك و مهتز! و ربما أجزمت أن فرانك كان يعاني من حالة صرع متقدمة حينما وضع تلك الخطوط، و أن ذلك الصرع قد ينتقل إلينا كما ينقل الفيروس مرضا معديا !!

أغلقت نافذة الفيسبوك بوجه ممتعض بعض أن تركت تعليقا قصيرا على إحدى صور هؤلاء هواة ''الإنتيريور ديزاين'' ......... (عاهة معمارية).
كانت لها آرائها الحادة فيما يخص استخدام العناصر المعمارية و المساحات المفتوحة و شبه المفتوحة... صفاء كانت تتشرب العمارة و تعيش ما دام الرابط منتصبا و الحد فاصلا.*
مبتكرة، تهوى الخطوط المستقيمة و الزوايا الحادة، محبة للفوضى المنظمة و الدقة الصارخة بذات الوقت، باردة مثل الحجر و الخرسانة المسلحة!
تتيقظ على صوت مديرها الذي لم تنتبه لوجوده إلا بعد إطلاقه صوته.. ذلك أنها كانت غارقة في اشمئزازها من فشل الهواة و ما يخلفونه من عاهات معمارية -كما سمتها.

-سنعقد إجتماعا بعد عشر دقائق مع مالك المنزل الذي حدثتك عنه، و تذكري أنه فاحش الثراء فأطلقي العنان لمخيلتك.
و هنا رثت لمخيلتها التي لا يمكن لأحد إطلاق العنان لها في بلد كالسودان، و لكنها تعزت بأن هذا سيكون أقسى إطلاق لعنان المخيلة.. المسموح به .. ووهووو!
كان صوت مديرها مرتفعا بطريقة مزعجة دائما ما كان يفجر طبلة أذنها، و لكنه كان يؤمن بصفاء و يوكل إليها المهمات الصعبة.. كان يفجر طاقاتها كذلك!



مع أنها ضجرت من تصاميم المنازل و المنشآت السكنية إلا أنها عزمت على أن يكون هذه المرة عملا مختلفا....... فكم مرة يأتيك زبون فاحش الثراء؟
ثم إنها قضت الأسابيع الأخيرة بين رسومات الحمامات و ''البير و السبتك'' و كل تلك التفاصيل المقرفة حتى بدأت تظن أنها سباكة و ليست معمارية.
ابتسمت صفاء لمديرها و انتصبت واقفة في حماس و صرخت :
-الحمد لله، فقد بدأت بالاعتقاد أن الناس لم يعودوا راغبين في بناء البيوت!

كانت العشر دقائق الأطول إطلاقا.. رأسها يعمل كماكينة عصر : ''أفكار.. أريد أفكارا.. ثري.. يعني مال.. و المال يشتري كل ما أحلم به من أفضل خرسانة و حجر بأية كمية.. ليس هذا فقط.. ربما يكون من البيوت الذكية* .. عالي التقنية! سيكون نقلة في عالم تصميم البيوت الثرية.. هيهي
لماذا تأخر؟''
و استدركت أن الأثرياء لا يلزمون أنفسهم بالمواعيد أبدا.

* * *

انقضت ثلاث ساعات الاجتماع بسرعة رهيبة حتى أنك تجزم أنها نصف ساعة لا تزيد دقيقة! الكثير من فناجين القهوة المحلاة جدا كما يحبها السودانيون، أربع سيجارات للمالك الثري و اثنتان لمدير صفاء المعماري الأخصائي/محمود. تعجبت صفاء فلم تر مديرها يشرب بهذه ''الشراهة'' في اجتماع مع زبون! أي نوع من الاجتماعات هذا الذي يملأ الهواء بالدخان أكثر من الكلام و المفاوضات؟

فكرت صفاء في وصف لهذا المشروع و استقرت على : الكمااال. فالموقع ممتاز.. بعيد نوعا ما و هذا ما يجعله ممتازا في الحقيقة، لأن المساحة واسعة جدا، واسعة و ليست كبيرة وحسب، لدرجة أنه يمكنك أن تلحق البيت بميدان غولف و جنة و تتبقى مساحة لم تستغل! ثالثا: ليس للمالك أية تحفظات أو ''طلبات خاصة''.. زوجته مع ابنتهما في رحلة بين الصين و دبي و بعض دول الخليج الأخرى تتسوقان للأثاث! و رابعا و الأهم : أن محمود وعد صفاء بأنه يمكنها المساعدة في الإشراف على البناء فور الفراغ من مسلسلات التصديقات.

ربما يكون مشروع الأحلام لصفاء المعمارية المستجدة التي لم تتعد خبرتها الثلاث سنوات.

كانت تحوم بذهن صفاء أفكار خلابة حالمة، إذا مثلت أمامها فكأنك ترى عرضا لسمنار محترف لمعماريين محترفين.. فالأدرينالين لا يجعلك تتوقف أبدا....
من أين تبدأ..
طابق قبو عتيق؛ ضوء الشمس فيه محرم إلا من بعض خيوط أشعة النهار الذهبية..
إيقاع الخطوط الأفقية مع الخطوط الرأسية التي تملأ الواجهات و تزيدها عمقا و جمالا..
فناء داخلي تتوسطه جنة صغيرة و نافورة تماما كما في العمارة الإسلامية القديمة..
كتل كاسرة للرتابة تصفع العين بشخصيتها القوية..
ممرات و ربما جسور صغيرة تخلق حوارا بين المبنى الأم و الأجزاء الصغرى..
حوائط مرتفعة من أرقى أنواع الحجر و الخرسانة العارية التي تسقط عليها شمس السودان القاسية فلا تزيدها إلا بهاء..
و تيمنا بفرانك لويد رايت الذي تهوى صفاء أعماله : الطائر ''الكانتليفر'' الطويل الذي يخلق ظلالا حميمية و جذابة..
.
.
..فوضى منظمة..
Perfection

شعرت صفاء أنها شاعرة و صانعة سيمفونيات.. إنها ليست محض معمارية.. إنها صانعة للجمال.
.
.
.
.
.
يتبع.




















مر اسبوع على ذلك اليوم المفعم بالحياة، اسبوع و لم يكن لدى صفاء سوى أرقام على ورق..
حينما أتت قهوتها و قامت بتشغيل أغنية صباحية خافتة لفيروز، و عندما راحت تحدق في الشاشة.. كانت تشعر أنها ستخرج عملا رائعا.
كما يبدأ أي مشروع بالعمليات الحسابية و دراسة الموقع و جمع المعلومات، فعلت صفاء كل هذا بالطريقة التي تعلمتها في مدرسة العمارة، كانت تعظم الأساسيات و تقول انها عماد التصميم الممتاز.

أليس من الغريب أن يسافر محمود في مثل هذا الوقت الحرج؟ و الأغرب أن يرفض بأن يأتي بأية رسومات مبدئية ''كروكيات''! هل هو اختبار من نوع ما؟ هل هو حقيقي هذا المشروع و هذا المالك الثري؟ بالطبع هو حقيقي ما هذه السخافة.. فقد زارت الموقع بنفسها و رأت إطلالته الجميلة، كانت موفقة في زيارته في الصبح الباكر، مما جعل انعكاس الشمس النعسة على صفحة البحر ينسيك كل شيء، تلك البقعة المميزة في سوبا التي لن تتخيل سوى اللعب على رمالها الكرة الطائرة!

صفاء كانت تتربع القرفصاء على مكتبها القصي في اتزان.. اذا نظرت إليها لن تتيقن إذا ما كان في ذاك الجسد روحا أم انك ترى صورة ثلاثية الأبعاد لشابة متعبة. ثلاث ساعات من النوم لا غير في الليلة الفائتة، ساعتان في الليلة التي تسبقها.. شعور لا يعرفه إلا من وهبوا حياتهم قسرا لدراسة العمارة! أقول قسرا فلا مجال لئلا تصبح كائنا ليليا إذا كنت معماريا أو طالب عمارة!
''أين هو الأدرينالين حين نحتاجه؟؟''
لدى كل منا في العمل ذلك الزميل الذي حين تراه كل صباح تشعر أنك لم تغادر هذا المكان و أن البارحة إنما هو امتداد لهذا اليوم. و تفكر ''هذه الأيام البائسة التي تشبه بعضها!!'' هذا الزميل لا يغير حتى من جلسته، يأتي مبكرا و يغادر بعد كل العاملين و ملابسه تتشابه كثيرا، آه الملابس؛ بالتأكيد تجزم أحيانا أنه لم يبدلها حتى.. و قد قضى ليلته في مكتبه.
كانت صفاء هي ذلك الشخص..... يظن زملاؤها أنها جزء من المكتب.

حين وضعت فنجان قهوتها الثانية جانبا، كانت عيناها تستقران على ذلك الموقع الالكتروني الذي جمع صورا لأعمال معمارية فريدة من هذا النوع الذي لا يستهويه الأكثرون. ذلك البناء ذي الأعمدة الخشبية التي اخترقت مقدمة بحيرة صغيرة من بحيرات سنغافورة.. كتب أسفله أن هذا المعماري اتبع المدرسة التجريدية في تصميمه، و فكرت صفاء أي تجريد و أي اتقان. مع أنه لم يكن من شيء يميز هذا البناء و لكنه يجعلك تطيل البحلقة إليه دون توقف! كانت كما لو شدت خيوط من رموشها إلى الشاشة........ و كأنها لقطة من لوحة فان-جوخية عميقة.
كانت تحب دهشتها التي تبديها من هذه الأعمال التي تلفت النظر و الفكر.
إذن فلا بد عليها أن تختار نهجا تسير عليه، ما الذي تريد أن تعكسه؟
هناك هذه البيوت الثرية التي حين تنظر إليها فإن أول شيء يخطر على بالك هو تساؤلك عن مدى ثراء المالكين أو آه كم كلف تنفيذ كل تلك التصاميم الدقيقة؟ و لكن ليس هذا ما رغبت صفاء أن يبدو للناظر، إنها تؤمن أن المال قد يشتري أي شيء، و لكنه كذلك يشتري البساطة و الرقي.
''أين هو محمود حين تحتاجه؟''
و يومض ضوء برتقالي بركن الشاشة اتجهت صفاء إليه فكان بريدا إلكترونيا من محمود.

معماريتي الصغيرة،
أعلم أنك لم تنامي جيدا في الأيام الأخيرة بسبب هذا المشروع، أقول إن الكثير من الشغف القليل، كما أعلم أن هذا القليل لا يكفيك، لذلك فانت غارقة لأذنيك في العمل.. اخرجي من حجرتك التي أطلت المكوث بها، تنفسي هواء الظهيرة و تمتعي بجمال الألوان، إنما الفكرة لا تأتي على عجل و إنما تأتي في ساعة نشوة، حين تسري تلك القشعريرة المعهودة في عروقك.
سأغيب ليومين آخرين مع الأسف، و كنا سنقابل الدكتور معتز في صباح الأحد و فكرت أنه ما من داع لتأجيل الموعد بسبب تأخري، قابليه، و اطلعيه على ما توصلتي إليه بعد دراستك المشروع ككل و خذي منه ما تستطيعين. و ابعثي إلي بالرد بعد الاجتماع لأبقى على إطلاع.
اقفزي الآن من كرسيك لأنه و كما أقول دائما :''يجب على المعماري أن يفعل ما يجب عل المعماري فعله!''.

تحياتي
م.أ/ محمود

كان بريد محمود الإلكتروني كفيلا بأن يبعث في صفاء تلك الكهرباء الاستاتيكية المصاحبة لمثل هذه اللحظات و التي لها قدرة السحر عليها! كان الجو مفعما بالإنتشاء و الإفتنان. مما دعاها إلى تجاهل حقيقة أن محمود قد تخلى توا عنها في اجتماع الأحد! قالت لها احدى صديقاتها مرة : ''إذا كانت العمارة أمك، فمحمود أبوك!''


Less Is More

خطت صفاء الخطوط الابتدائية الأولى في بيت د. معتز.
مرحلة التنطيق* من أهم مراحل التصميم المعماري و على إثرها يحدد مصير التصميم إذا كان متزنا جامعا بين الجمال و الوظيفة أو كان مريعا لا يخدم الأهداف.
كانت صفاء تظن أن طريقة الكتل و المحاور في التصميم المعماري من أفضل الطرق التي تقود إلى تصميم جيد. قلما تجد بيتا مصصما بهذه الطريقة في السودان. و هذا زاد من حماسها للفكرة.
صفاء تأثرت بالعمارة الإسلامية منذ محاضرات تاريخ العمارة الممتعة تلك، كانت تمجد عناصر العمارة الأسلامية، لذلك قررت أن تضفي بعضا مما تؤمن به في تصميمها، فخطرت لها فكرة القبة.. القبة؟! نعم القبة. الحقيقة إن صفاء لا تحب منظر القبة من الخارج و لكنها تقول أن منظرها من الداخل حين ترفع رأسك و ترى تجويفها النصف كروي ذي العمق الذي ربما تدلى منه ثريات منيرة فإنه يعطيك هذا الشعور بالانتماء. تذكرت ذاك المسجد الموجود باحدى دول شرق أوربا الذي يزوره العشرات يوميا ليتأملوا جمال قبته من الداخل! ستكون القبة غير مرئية من الخارج و تتفاجأ بها داخل الفراغ الذي غالبا سيكون البهو الكبير.
ثم هرعت صفاء إلى المنطقة التي تفضل أكثر من أي شيء، و فكرت ''إن المنطقة المركزية في المباني الكبيرة هي المساحة المفتوحة'' و ها هي تضع بالون المنطقة الوسطية كفناء داخلي فسيح.... و راحت بخيالها مع تصميمه الداخلي.

حين تلاحظ أن في بعض الأعمال المعمارية اهتماما بأشياء مثل القاعدة الذهبية قد تفسر هذه الأعمال بالتقليدية أو الكلاسيكية، فمن يتبع نظريات العمارة في هذا العصر غير الذهبي بتاتا! و تظن أن تلك النظريات لا تغادر الكتب و المراجع. قد تعتقد أن من يتبعها في عمله إنما هو شخص ضيق الأفق و المخيلة، لأنه استغاث بها، تلك من الأفكار الخاطئة، فتلك النظريات لا تتبع على غير هدى، و لكن إذا اتبعت من غير تقليد أعمى لأعمال صممت بها مع بعض الحرية فإن ذلك يقود حتما إلى أحسن النتائج. فالكثير من الحرية في التصميم قد يضر و القليل منها يقيد، عليك أن تحافظ على الخيط ما بين مشدود و مرتخي في صناعة البناء.

تتقافز الأفكار في ذهن صفاء، و كل فكرة تؤيد اتباعها للنهج الذي عزمت أن تسلكه. كانت متمردة بحدود، قانونية بخيال.. العبثية المعمارية.
حرصت في كل ذلك على أن القليل من كل شيء الجميل، فكم بغضت تلك التصاميم المكتظة.

بعد الكثير من الكروكيات و الأوراق المبعثرة هنا و هناك و الكثير من الأفكار التي مازالت حبيسة العقل، استقرت صفاء على تنطيق مبدئي يبعث على الراحة تبهج به زبونها، أغلقت لفائف الورق بعد أن نظرت مرة أخيرة على الثلاثة بلالين بألوانها الزاهية التي مثلت المناطق الرئيسية، كانت تعبر عن عشوائية وجودها و عبثية العمارة......... نظرت إليها و كأنها تطمئن عليها. :')

صباح الأحد

تلقت صفاء اتصالا مبكرا من الدكتور معتز يبلغها فيه بإعتذاره عن موعد اليوم، حاولت أن تستطلع السبب بلباقة متكلفة.
حزنت صفاء فقد تذكرت بريد مديرها ''وخذي منه ما تستطيعين''.. ما تستطيع، فهل فعلت ما تستطيع؟ باشرت الاتصال به و قفزت بأول أمجاد متجهة إلى حيث يقيم د. معتز......!!

ضاعف سائق الأمجاد الأجر لصفاء لأنه أوصلها توا إلى أفخم بيوت المنطقة....... إنها المرة الأولى التي تجتاز فيها صفاء بوابة بذلك الحجم!
استقبلها د. معتز بفيض من الإعتذارات و بترحيب لا بأس به، أجابت :
بل أنا التي يجب عليها الإعتذار لهذا الاقتحام الصغير، و لكنك تعلم أنه ''يجب على المعماري أن يفعل ما يجب على المعماري فعله!''
ضحك د. معتز و أجلسها في أبهى حديقة بشجرات عاليات، و جو الظهيرة الذي يشتهي القيلولة.. ثم علمت بعد ذلك أنه بيت أخيه.
- عصير فريش؟ قال الدكتور معتز.
- بالتأكيد.

بدأت صفاء حديثها بأهمية التعرف على أسلوب حياة الزبون لأنك لن تصمم له حوائطا و أسقفا فقط، ستصمم له حياته! و زعمت أن تلك من سياسات الشركة، لا أظن أن محمودا أخبرها بمثل هذا الهراء قبلا ربما اختلقته في تلك اللحظات كالعادة..!
بررت إصرار مديرها على إقامة الاجتماع في موعده و من ثم هي بمجيئها، بقولها :
نحن المعماريون، لا ننام و لا نأكل و لا ننتظر .... حتى نصنع ما نريد.
كانت صفاء على ثقة بنفسها ذلك اليوم و الحقيقة كانت تجد مبررا و أقوالا منطقية لكل ما فكرت أن يخطر على بال الدكتور معتز.

لم تكن تدري صفاء أن للدكتور معتز ابنا حينما قام بتقديمها إليه، قبل قدومه هبت رائحة عطرية شديدة الفخامة توشك على تدوخك، و كانت هي غارقة في الغبار حتى شعرت بخجل من نفسها! و لم تجسر على السؤال عن الاسم لشدة ما تدب الحياة في الأسماء! فقد كانت غارقة في الأعمال طيلة العام و كان لديها الكثير مما يشغلها عن التعرف على 'أسماء' فتيان زبائنها -المدللين غالبا-..... و كل هذا الكلام الفارغ، عندما تفكر في هذا تشعر أنها سطحية بلا فائدة.

- ''البلياردو. هل أخبرك والدي أني أريد صالة بلياردو منعزلة؟''
ابتسمت صفاء و أومأت إيماءة نعم لم يخبرني أبوك الثري و لكني أعرف لشدة ذكائي! *_*
-''كنت أفكر بصالة رياضية متكاملة!''
برقت عيناها و هي تتحدث عن الفكرة التي كانت وليدة اللحظة، من الواضح أنها نالت إعجاب الجميع لدرجة أن الابن قرر أن يكافئها بأن يذهب بنفسه و يستطلع أمر العصير الفريش!
.
.
.
يتبع




















اسبوعان مرا على بداية المشروع، مشروع الأحلام كما سمته صفاء.. صفاء لم تفقد حماسها منذ اللحظة الأولى..... و إلى الآن، كانت تعتقد أنها إذا ما فقدت حماسها و شغفها فما الذي يتبقى من المعمارية الجامحة بداخلها؟

كلما يمر الوقت على مشروع بيت الدكتور معتز هذا، كان ذهن صفاء يزخم بالأفكار الجديدة شديدة التنوع و التعقيد.
الفتاة الصغيرة التي كانتها صفاء تذكر مشاهدات معارض معمارية في بعض أجزاء آسيا الشمالية و الشرقية التي زارتها في طفولتها المبكرة، تلك المنشآت الواعدة في مطلع التسعينيات هي التي شيدت العالم الأول في عيني صفاء، و دراستها للعمارة لاحقا التي جمعت بين الفكر التجريدي الهندسي و منطق الرياضيات و الذي يمثل لب العمارة.
كما أنها تلميذة نجيبة لأحد أفضل معماريي البلاد، م.أ/محمود.. فهذا المحمود سينمائي استثنائي، كان يبصر كما ترى الكاميرا، و في تصميماته نعثر على كوامن منشآت عصرنا وهو يصوغ ذلك بطريقة و أسلوب يخصه وحده.


الإجتماع التخطيطي الأول

مثل هذه الإجتماعات التي تضم طاقما من المهندسين في شتى مجالات الهندسة، لا تعقد إلا في المشاريع الكبيرة
كانت صفاء تحب قاعة الإجتماعات الكبيرة هذه و كانت تحبها أكثر كلما قل عدد مقاعدها الفارغة.
افتتح الإجتماع م/محمود باعتباره المدير العام و المشرف المباشر على المشروعات..
- ها نحن مجتمعون اليوم لنحول تلك البقعة الشاسعة من أرض سوبا إلى مشروع سوف يرى بين النخبة أنه بسيط كالسحر أو لدى العامة على أنه قادم من كوكب الغد، الغد القريب و ليس البعيد. مشروع سيكون عاصمة عمارة الغد فيما بعد، و سيتطلع إليه كافة المعماريين و المهندسين بفخر، خاصة أنه مشيد على أرضنا.

تزيد كلمات محمود الجو إنتشاءا و طاقات إيجابية، كما تزيد الهم -على صعيد آخر- الواقع على كواهل كوكبة المهندسين هذه، خاصة صفاء التي كانت تستمع لكلمات مديرها بشغف و كأنها تسمع صداها متصلا ليس تاركا لها أينما تذهب!
إن محمود ببسيط العبارة يريد من الجميع أن يخرجوا أفضل ما عرفوه من واقع تعلمهم و خبرتهم إلى هذا المشروع.. لأنه سيكون إضافة لكل الأطراف.
بطبيعة الحال كانت صفاء الأصغر بين الحاضرين و أقلهم خبرة و لكن ثقة محمود العظيمة بها جعلتها تتساوى معهم، رغما عن أن هذا يضايق البعض منهم و لا يؤمنون بتلك الشابة اليافعة التي لم تر من الحياة ما رأوه.
و ربما ازداد المتضايقون ضيقا حين جعل محمود صفاء تتحدث عنه و باسم الطاقم المعماري.. في ذلك الإجتماع العظيم.
كانت قد أرفقت فقرتها بعرض لصور معمارية كانت ضمن بحثها في مرحلة جمع المعلومات.. و تابع الحاضرون باهتمام........

-أول نقطة أريد طرحها، أنه في صناعة العمارة دائما ما نؤمن بوجوب إبتكار شيء جديد، شيء يأتي لتطويع التكنولوجيا و استخدام المصادر التي لدينا بما فيها البشر، و هو أمر يقودنا إلى أفضل ما لدينا من مساحة بناء أو عمارة مشيدة عليها.. كما يقول المهندس محمود ''واقع بطولي يرى الغد''!
ثم تبتسم لتمكنها من المقدمة، فالبدايات هي أصعب ما نواجه.
كان محمود يستمع بفخر و يرى ثمرة جهده و تعبه.... لم تذهب هباءا.
نظرت إليه كأنه تستأذنه في المتابعة فأومأ لها أن واصلي و تلك النظرة الحنون التي تقول ''انت تبلين جيدا معماريتي الصغيرة''.

- الأمر الثاني، إيجاد زوايا رؤية جديدة، كيف؟ كلنا يؤمن بأنماط العصرنة في عهدنا هذا و أنه صار مرتبطا ارتباطا وثيقا بصناعة البناء و لكننا لا نريد أن نزرع هيكلا منفصلا عن محيطه، في بقعة من الفراغ، و إنما سوف تبنى هياكل عضوية تنسجم مع الفضاء الخارجي الذي تسكنه.
فحين نتبع المدرسة الإسلامية في التصميم هذا لا يعني ألا يوائم التقدم، أي استلهام التاريخ من عصرنته. و موائمة التقدم بدورها لا تعني ألا يتمتع التصميم بروح الثقافة المحلية، بل سوف نضغط كل الطاقات معا لكي يخرج الموضوع المعماري ظاهرا في فضاءه المجتمعي و ليس متحررا كليا منه، بذات الوقت.
كانت عيون الناظرين تتقافز بين الكلمات التي تبثها صفاء في أثير غرفة الإجتماعات و بين الصور التي كانت تصف بدقة متناهية لما تتحدث به.
*و يزداد عرض ابتسامة محمود* :)
-النقطة الأخيرة، و هي مفتاحنا للوصول لكل الحلول و هو الإهتمام بالتفاصيل، أن نزرع كل الأفكار التي أتت من أي فرد منا على أرض الواقع بصورة مقاربة جدا إلى ما تخيلناه.. و الإهتمام بأصغر تفاصيل التصميم، لأن الإهتمام بالتفاصيل الصغيرة هو ما يفرق العمل التصويري الذي يصور فقط فكرة ما و بين العمل التعبيري الذي يعبر بكل ما أوتي عن ذات الفكرة كما يجب أن يعبر عنها.
لقد ذكرت التوجه الذي سيتبعه قسم التصميم المعماري و أردت التركيز عليه و إعلام كل الأطراف به لأهميته و لأنه الهدف و أول ما سيبحث عنه عند إكتمال العمل، فإني أريد أن يستحضر المهندس المدني و مهندس المساحات الخضراء و مهندس التصميمات الداخلية كل هذا أثناء عمله، لأنه إذا بثت بجميعنا روح واحدة فهذا أقصر طريق نسلكه إلى خط النهاية.

كانت كلمات صفاء تكفي و تشفي، فلم يكن لدى أحد الجرأة على التدخل في تلك التفاصيل المعمارية المعقدة أو السؤال عن شيء.
أضاف محمود على خطابها إضافات عززت من موقف القسم المعماري و لكنه لم يزد أو يعدل على أصل فكرة.
و كان هذا ما يبهج صفاء و يزيدها ارتباكا و توترا بذات الوقت. و مازالت تتسائل أن لم يترك محمود لها الجزء المهم و الأكبر في هذا المشروع الضخم؟ إذا كانت ثقته لا حدود لها فلا بد لها أن تثق بنفسها أكثر.
استمر الإجتماع لعدة ساعات أخرى بمشاركات و طرح مشاكل و حلها و ترك أشياء معلقة............ يبدو أن الموضوع يستحق أكثر من عشرة اجتماعات كهذا! لكن كان لكل هذا عبقه الخاص.. و كأنك جزء من طاقم صنع التايتانيك.... أو شيء من هذا القبيل!

* * *

أخيرا وصلت حرم الدكتور معتز و ابنتهما الموقرتين أراضي البلاد، و حين تأتي ربات البيوت فهذا أمر يبعث على التوتر من دون شك.
يبعث على التوتر فقط؟ بل تشعر أنه قد يتوقف الزمن! فهي صاحبة الكلمة الأخيرة، النساء بطبيعة الحال يرتبطن ببيوتهن أكثر من أي أحد، لذلك فالواحدة تريد أن يصبح بيت أحلامها واقعا و لا تكترث لأي شيء في سبيل حدوث هذا.

إذن فلا بد من اجتماع طاريء مع آل البيت، الحقيقة لقد بدأت صفاء تكره هذه الإجتماعات المتكررة و المملة. أما الحقيقة الأخرى التي تكرهها صفاء أنها تخاف أن تأتي هذه الحرم بتلك الأفكار التي يأتين بها ربات البيوت لا تدري من أين! و ربما رأتها في رحلاتها السياحية الأخيرة هذه، و قد تصر على تنفيذها متناسية مراعاة فروق المناخ و البيئة و المجتمع.

كل مخاوف صفاء تبددت على ما يبدو لأن السيدة مها زوجة د. معتز كانت (أولا امرأة صغيرة في السن) و ثانيا متفهمة لبيئتها و مؤمنة بإيكال مهام المعماري إلى المعماري... فكم يأتيك زبون و لا يتبق لك إلا أن تصرخ به :''هلا أمسكت القلم و قمت برسم بيتك بنفسك!!!''
لم تكن مها على تلك الطبيعة، و كانت جل مطالبها الخاصة تدور حول وجوب اتساع المطبخ و الفناء الخاص به.
أبدى الجميع راحة و إعجابا غير متكلفا لبعض بدايات التصاميم التي أرتها لهم صفاء و كان عمر الابن الأكبر يمدح صفاء لأمه أمام الجميع بطريقة جعلت صفاء تضحك تحت أسنانها.
ختمت صفاء ب: وجدنا في هذا التصميم المعماري حلا و متنفسا لكم من تلك الشقق المعلبة و المناخات المتطرفة........ :)

حدائق سوبا المعلقة

صبيحة اليوم التالي كانت صفاء جالسة مع مهندسة المساحات الخضراء، إحسان، لأنه لدى صفاء فكرة كانت مثل الغصة في الحلق.
كعادة صفاء لا تجيء بفكرة إلا و حضرت شخابيطها التوضيحية و ربما صورا لأمثلة مشابهة.
همست صفاء في أذن إحسان و كأنها لا تريد لأحد أن يسمعهما مما أضفى على الفكرة سحرا غريبا و لكأنّها فكرة محظورة... و المحظور مرغوب! *_*
-انت تعلمين أهمية الحديقة في زخم تلك الكتل الخرسانية و ربما كتل الصلب و الزجاج التي تهاجم العين بضراوة! لذلك سوف نستفيد من تربة تلك الأرض الصالحة جدا للزراعة.. أقصى استفادة... *و تخفض صوتها أكثر حتى يصير كالحفيف* : لن تكون حديقة أمامية أو خلفية فقط، سوف يكون البيت داخل حديقة! اسمعي؛ بل عاصمة للنباتات الاستوائية!
من الواضح أن الفكرة في مبدئها نالت إعجاب المهندسة إحسان و لكنها تعمد ألا تظهر إعجابها و إنما أرادت من صفاء مزيدا من الشرح.
واصلت صفاء : استوحيت هذه الفكرة من حدائق بابل المعلقة، سوف نقوم بتشييد شجرة عملاقة بارتفاع خمسة إلى سبعة طوابق و سيكون هيكل الشجرة من الخرسانة المسلحة و الذي سيكون متكأ للزهور و النباتات المتسلقة.. تستطيعين تخيل جمالها أليس كذلك؟
*و تبرق عينا إحسان*
و تتبع صفاء : و إليك هذا، ربما تسمح بأن تكون بستان فواكه و نباتات سرخسية.. امممم هل تنمو النباتات السرخسية في السودان؟ *ولا تنتظر صفاء ردا* أما الأغصان فأقترح أن تكون من الأسلاك السميكة التي تشبه فروع شجرة شتاء متجردة من الأوراق.. و مع المواسم ستنمو النباتات بها.. و لا أظن أننا سنواجه مشكلة في ري هذه النباتات المرتفعة أليس كذلك؟ مضخات المياه العادية ستفي بالغرض.
أما في الليل بكل تأكيد ستضيء تلك الأسلاك من خلال مصابيح متناهية الصغر تثبت عليها بعشوائية.. فيجمع كل هذا بين عالمي النبات و الهندسة. :')
بعد أن ندرس الميزانية ربما شيدنا أكثر من شجرة من صنع الانسان و ربما حقلا لأشجار بارتفاعات و أحجام متباينة. ليصير هذا مشروعا قائما بذاته و نستطيع أن نطلق عليه اسم ''الغابة المعمارية''!
و تضحك صفاء من فرط سعادتها، و تبادرها إحسان بسؤال : من أين أتتك هذه الفكرة؟
تزداد صفاء ضحكا و تخبر إحسانا بحقيقة الأمر :
- الابن المدلل!
- من؟
- عمر ابن الدكتور معتز، درس كلية الغابات في ماليزيا و هو مولع بالنباتات الإستوائية و قال لي ذات حوار أنه يتمنى لو كان له معمل نباتات خاص به، وهنا قفزت الفكرة برأسي، ف.. انظري.. في هذا المنطقة من أعلى الشجرة الصناعية يمكن أن يشيد معمل صغير للنباتات، و أي شيء أفضل من هذا لعالم نبات؟
تعودان للضحك إلى أن يباغتهما عمر باتصال مفاجيء.. تتسع عينا صفاء و هي تقرأ اسمه على شاشة هاتفها و تصرخ : انظري! ابن الحلال على ذكره يباااان!! هيهي
- ألو مرحبا
- صباح الخير آنسة صفاء
- أسعدت صباحا
- هاه، أخبريني ماذا حل بالفكرة التي عرضتها علي بالأمس؟
-اطمئن، كل شيء تحت السيطرة.
- ماذا يعني هذا؟
- يعني هذا أننا في الطريق إلى أخذ الموافقة التامة عليها.
- جميييل، جميل جدا، و تذكري ألا تحملي هما لل.... * تقاطعه صفاء*
- تمام، انا على العلم التام بكل شيء، لا تقلق.
- طيب. سأتركك لعملك، إلى اللقاء و أرجو أن تبقيني مطلعا على المستجدات.
- بكل سرور.. مع السلامة.
تقفز إحسان : ماذا إذا لم يوافق محمود على هذه الفكرة، انت تعلمين كم ستكون تلك الهياكل الخرسانية مكلفة؟؟!
- أوه لا تقلقي انتي الأخرى، محمود قد أوكل الأمر لي و إنه تحت تصرفي.

انصرفت إحسان و تركت صفاء بحالة مزاجية جيدة و راحت بخيالها طويلا مع فكرتها الأخيرة، مما دعاها الى ان تتساءل : هل تثمر أشجار بابل في مساحاتنا الوطنية فعلا؟

و يصفر هاتف صفاء النقال بزعيق خفيف، رسالة من عمر :
سأضطر للسفر خلال اليومين القادمين، أرجو أن أسمع ما يسر عند عودتي...... حظا موفقا.

هنا شعرت صفاء بعاطفة غريبة أيقظتها خرائب تلك الرسالة! لماذا و ما هذا؟ صفاء لم تكن لتتعلق بشيء غير عملها فقد وهبت نفسها للعمارة، فما الذي يحدث لها الآن بالضبط؟ و ما هذا العمر الذي اقتحم حياتها و هي تشعر الآن بألم رحيله المؤقت جدا؟
تهرع إلى خرائطها المعمارية لتتناسى هذه الدراما غير المرغوبة و الدخيلة بحياتها و تنظر إلى رسومات بيت د. معتز الإبتدائية.... حاستها السادسة لا تعمل جيدا، و لكنها تعمل.. تقول لها أنه ليس بيتا عاديا. تفكر صفاء: حسنا ليس بيتا عاديا إنه فريد من نوعه.. تجيبها حاستها السادسة: ليس من الناحية المعمارية أيتها الغبية! ثم تخرس إلى الأبد.. ماذا تقصدين؟
ماذا تقصدين؟
.
.
.
.
.
.
.
.
.



يوتبعععع... لكن ماف زول يجنني :'(











(4)


by Rayan Khalil Jubran (Notes) on Sunday, June 9, 2013 at 1:07am


ما من مشروع يخلو من المشاكل، المشاكل التي تواجه الجميع و غالبا ما يرجع الأمر إلى المعماري ليقوم بحلها، مشاكل في مراحل التخطيط و التنطيق، مشاكل في أولى مراحل التنفيذ، مشاكل في مراحل انتصاف العمل و ما أبشعها هذه الأخيرة كأنك على متن سفينة في عرض البحر و ترى تسربا للمياه من مكان ما!

المشروع الذي بدا لصفاء كامل الأوصاف و رائعا و.. عمارة الغد.. و ''الكلام دا''.... تبين لها مع الوقت أنه ما من شيء في العمارة يتسم بالكمال.. بل ما من شيء في الحياة كامل، تعلمت صفاء هذا بالطريقة الصعبة.
صفاء عانت في الأسابيع الفائتة كي تحافظ على رباطة جأشها و تماسكها لئلا تقع، فالكثيرون يعتمدون عليها و خطأ منها قد يؤثر و قد يكلف الكثير..... كانت صفاء تماما كأم العروس!

قررت شركة المقاولات أن تبدأ بجميع أعمال الهياكل الخرسانية مع بعضها.. في آن واحد، حتى حديقة صفاء المعلقة (راجع الجزء الثالث) و التي أسمتها حدائق سوبا المعلقة، وقد بدأ فعلا صب تلك الخرسانات الشاهقة المخيفة و وجود ماكينات الرفع العملاقة تلك تبعث الرهبة و الهيبة بآن واحد.

ولكن بعد مرور عدة أسابيع على بداية أعمال الهياكل الخرسانية، تلقت صفاء خبرا صاعقا في صبيحة يوم أربعاء لعين.....
إن أحد الهياكل العملاقة الخاص بالشجرة الاصطناعية، قد تعدى آخر نقطة مسموح له بالانحناء فيها Max Bending Moment وحدث التحطم... نعم تحطم فأثر هذا على أساسات هياكل المبنى الأم..
تحطمت صفاء مع هذا الخبر، إنها حقا مصيبة كبيرة أكبر من تتحملها صفاء تلك المعمارية الصغيرة.. ما الذي يتوجب فعله الآن؟ هل وصل الخبر إلى مديرها محمود؟ بل كيف تخبر الدكتور معتز و آله؟

* * *
لنعد ببضعة أسابيع -كثيرة- إلى الوراء..
تذكرون حين كانت صفاء في قمة انتشاءها و فرحها بفكرة الحدائق المعلقة؟ التي واتتها بعد علمها أن السيد عمر ابن د. معتز يحلم بمعمل للنباتات المتسلقة؟
هل تذكرون حين تساءلتم عن إمكانية تنفيذ هذه الفكرة الجميلة ولكن المكلفة جدا و الخطيرة جدا؟ و كيف أن البعض هاجمها و ربما فكر أن صفاء ليست سوى معمارية استغلالية أرادت أن تقيم حقلا لتجاربها غير المضمونة بتاتا على أرض د.معتز؟ هل؟
حينما كانت صفاء سعيدة بتلك الفكرة و قفزت إلى مديرها محمود لتطلعه عليها..
صمت محمود لبرهة..
قطب حاجبيه و أشعل سيجارته ..
- قلتي معلقة..؟
- نعم يا محمود سوف ...............................

(كل التفاصيل التي ذكرتها لإحسان مهندسة المساحات الخضراء منذ ساعات)
محمود لم يبد ارتياحا للفكرة، و صفاء تعلم أنه لا يميل للمجاملة في هذه الأمور.. محمود أخبرها أنه سيفكر في الأمر.. صفاء كانت واثقة أن محمود لن يرفض مثل هذه الأفكار المبدعة والنادرة والتي قلما تجد فرصا في بلادنا.. إنه يتطلع للتقدم دائما وها هي صفاء سخرت مدخلا إليه! أو هكذا فكرت...
ثم خرجت منه قفزا تخبر كل من يمكن إخباره بالفكرة!

بعد ساعة كان المهندس المدني صابر يرشف قهوته السادة في مكتب محمود.. كان يرشفها على عجل و يضع الفنجان بعنف واضح كأنه ينفس عن غضب هو به في فنجان قهوة.
إذن فمحمود أخبره بالفكرة ولا شك. منذ أن علم المهندس صابر أن صفاء صاحبة الفكرة حتى استشاط غضبا و كأنه يؤنب صديقا على دلاله الزائد لابنته!
المهندس المدني صابر كان الساعد الأيمن و كاتم أسرار محمود.. كان ذو خبرة واسعة و معروف بين النخبة بعبقريته في حل المشاكل المدنية الهيكلية المعقدة.. كان محمود يثق بصابر و لكن كان لصابر مشكلة واحدة... أنه لا يثق بصفاء ولا يرى فيها معمارية المستقبل 'وكل هذه الأشياء التي يملأ محمود رأسها بها'
لطالما أنبه على تمسكه بها و إيكال زمام كل الأمور تقريبا إليها و هي بهذه الخبرة الضئيلة.. و الآن بهذه الفكرة الغبية كما وصفها :
- إن هذه الفكرة هي الغباء بعينه، عفوا أخي محمود ولكن انت سألتني عن رأيي، وأنا كمهندس مدني لا أرى أي إبداع أو فائدة منها.. هلا قلت لي ماذا سنرفع بتلك الهياكل الخرسانية التي على شكل ماذا؟ زهرة؟ أم شجرة قلت؟ ماذا سنرفع؟ معملا للنباتات؟ (وربما أراد الضحك هنا) ما من معمل أفضل لعالم نبات من الطبيعة الأم. اسمع يا محمود أنا لست موافقا و لست مغامرا بطاقمي ومجهوداته و وقتي و بالميزانية من أجل فكرة في منتهى الغباء و غير مضمونة ولا تخدم أي وظيفة ملحة أو غير ملحة حتى! آسف.

كان حديث صابر منطقيا بالنسبة إلى محمود.. و لكن محمود كان ملما بعقلية المهندسين المدنيين عموما بصابر خصوصا، إنهم في المجمل لا يحبذون المخاطرة بما قد يمس أساس المبنى أو الهيكل الذي يحمله.. أما صفاء فقد كانت ترى أنهم في المجمل رجعيو و جبناء و يخافون المجازفة (عذرا لكل القراء المدنيين).
كان محمود بعد ثقته المفرطة في صفاء معماريته التي رباها على القدوم بكل ما هو جديد مع الإستفادة من المعطيات .. فكر أنها ربما ستخرج عملا فريدا من تلك الفكرة.................................... هذا أو انها ستفشل فشلا ذريعا.
كان الصوتان يرخان بذهن محمود الذي و للمرة الأولى لا يتمكن من اتخاذ قرار يحسم به الأمر..
هذا صابر يرفض العمل والمجازفة، و هذه صفاء بفكرته الجديدة التي ربما قد يندم يوما أنه لم يلق لها بالا.
إذا كان عليه الموافقة فعليه أن يضغط على صابر و طاقمه بكل ما أوتي من قوة، وإذا لم يوافق فما عليه إلا أن يدعو صفاء على فنجان قهوة بالحليب كما تحب و يخطرها بابتسامة حنون أن ''الكلام دا حيكون ما صاح مننا والله''!

* * *
طال مكوث المهندس صابر بمكتب محمود مما جعل صبر صفاء ينفد فقد كانت تنظر رد محمود على أحر من الجمر..
و ما إن رأت -أخيرا- وجه صابر وهو خارج حتى أخبرتها حاستها السادسة أنها لن تسمع ما يسر. اقتحمت مكتب محمود بسرعة و رأسها يكاد يقفز من تطلعه و عيناها تكادان تنفكان عن مكانيهما.. و كلها تساءل عن الذي حدث و عن قرار محمود....
ولكن محمود لم يفجر لها الخبر كما توقعت، وإنما أخبرها أن تعطيه مزيدا من الوقت ليدرس الفكرة.. و ترك صفاء في حيرة من أمرها..
فكرت صفاء أنها المرة الأولى التي يتحجج محمود بدراسة الفكرة لوحده! دائما ما درساها معا.. إن هذا الصابر لعب بعقل محمود من جديد.

كل هذه الدراما الاعتيادية التي تمر بأي مشروع أصبحت طبيعة لكن صفاء لم تكن مرتاحة لسيناريو الدراما هذه المرة... و بدأت بالتفكير في طريقة أخرى لإقناع محمود بفكرتها.


صبيحة اليوم التالي هرولت صفاء إلى المكتب بعد ليلة لم تنم فيها أي دقيقة بقيت مستيقظة الليل بطولها باحثة عن شيء تقنع به محمود و ربما صابرا نفسه!
وهي تدير مقبض باب مكتب محمود بعد طرقها خفيفا عليه.. ظهرت مروى السكرتيرة وأخبرتها أن محمود غير موجود وقد ذهب لمقابلة د. معتز!
''- من دوني؟!'' فكرت صفاء بصوت عال مما جعل مروى تقطب حاجبيها استغرابا.. وتركتها صفاء لتتصل بمحمود..

محمود لا يرد.. إذن عمر.. يجب أن تتصل بعمر معتز في الحال!
- صباح الخير عمر آسفة على الإزعاج في هذا الوقت المبكر
- صباح الخير صفاء و لكن ما الأمر؟
- هل المهندس محمود برفقة والدك الآن؟
- اعطني لحظات....
... وترك صفاء وهي تضرب أخماسا في أسداس.
- ألو صفاء.. نعم إنهما مجتمعان في غرفة المكتب، هل تريدين أن توصلي إليه رسالة ما؟
- لا شكرا.
وأغلقت الخط.

هونت على نفسها وقالت إن محمود يطلع د.معتز على فكرتها الجديدة و ربما قد تعجب المالك .. و ربما..
و صارت تتأرجح ب-ربما-ت كثيرات حتى أتى ظهر ذاك اليوم وحضر محمود.. فأسرعت صفاء إليه لتريه ما سهرت الليل من أجله و لكنه ''قفلها معاها'' بأن لديه اجتماعا طارئا مع لجنة فحص التربة الآن!
- طيب يا محمود، إن رجال التربة هؤلاء يجب أن يطلعوا على ما وصلت إليه بدوري.. أولا تظن أن......
اعتذر محمود بازدراء :
- في وقت لاحق صفاء، في وقت لاحق.

صفاء فعلا أصبحت مشتتة جدا و مبعثرة جدا من الداخل، ولا تجد أجوبة لأسئلة دخيلة وجديدة عليها من نوع : لماذا يقوم محمود بهذه التصرفات؟

بقي محمود على هذا الحال لاسبوعين لا يعطي صفاء أي فرصة، إذا كان حله التهرب منها لعدم موافقته على فكرتها فإنه ليس بالتصرف السليم أبدا، هكذا فكرت صفاء.

صفاء مع الأسف بدأت تفقد الثقة بمحمود و بنفسها و صارت لا تؤدي عملها كمعمارية على الوجه الصحيح والذي تعودته.
إلى أن أتاها محمود يوما إلى مكتبها مما دفعها الى التساؤل و مزحت مزاحا يلفه الغموض بعد ان احسنت استقباله :
- أووو وما الذي أخرج الأسد من عرينه أخيرا؟
- أخيرا و ليس آخرا، لقد قررت أمرا و وودت إطلاعك عليه بنفسي..
- تفضل ارجوك
- سوف نقوم بتنفيذ فكرة الحدائق المعلقة!
- أخيرا تكرمت سيادتكم بالاستماع إلينا!!
- أخيرا..
- سيدي، إنه أحلى قرار تتخذه في حياتك!
- هههه، حسنا باشري فورا برسم المخططات و الخرائط و القطاعات الرأسية و التفاصيل حتى تصب الخرسانات مع خرسانات المبنى..
- سيدي كل شيء جاهز منذ اسبوع وما عليك إلا أن تراجعه و توقع :)
- هذا ما يعجبني بك، إذن اطبعي كل شيء و ارسليه إلى مكتبي في الحال..
- حاضر سيدي.

تكاد الفرحة لا تسع صفاء .. و لكن الفرحة غشت بصيرتها فلم تنتبه إلا متأخرا أن اسم المهندس المدني صابر ليس موجود بالخرط الموقعة!! و إنما وجدت اسما آخر....
غير معقول لا بد من خطأ ما.. فمحمود لا يتعامل مع مدني غير صابر منذ تسعة أعوام!!!يتبع..



(5)


by Rayan Khalil Jubran (Notes) on Tuesday, June 11, 2013 at 1:23am


هل كانت صفاء سببا في انفصال المهندس صابر في عمله عن مديرها محمود؟
قررت أن تبحث عن بعض الأجوبة..
م.أ/محمود :
- نعم، المهندس صابر فضل ألا يخاطر و هدد بانسحابه.. (وبسط راحتيه معبرا عن انعدام الحيلة) و انسحب فعلا..
- و لكن يا محمود إن المهندس صابر منذ تسع سنوات....
(يقاطعها محمود):
- أعلم، إن هذا عمل، ولا وجود للعواطف هنا.
صحيح أن صفاء لا تحب صابر كشخص و تدري أنه يستصغرها لكنها تثق بعمله و لا تتصور أن ينفذ مهندس مدني غيره خرائطها المعمارية.. و منذ أن أتت إلى مكتب محمود قبل أكثر من ثلاث سنوات وهي تتعامل معه. أثار كل هذا فيها الريبة و الحيرة و الشك، و الإحساس بالذنب في ذات الوقت.. و كأن محمود وضع صابر على كفة و وضعها على كفة و رجح كفتها.. و قد خسر المكتب مهندس لامع من وراء أفكارها التحررية!
- سيدي أنا آسفة و لكن برغم كامل رغبتي في تنفيذ هذه الفكرة .. أليس من الأفضل لو كنت عرفت قبلا بهذا الأمر؟ لا أعتقد أنني أستطيع المضي قدما بعد معرفتي بما حدث.. ثم من هم شركة سعدون هؤلاء؟! لم أسمع عنهم قبل الآن!!
- أما انك غريبة حقا يا صفاء يا صغيرتي! لقد كنت مصممة على إقناعنا بفكرتك و ها نحن بصدد تنفيذها، ما الذي يهمك إذا ما نفذها صابر أو غيره؟ إنك إن أردت بلوغ هدف معماري سام.. فلا تدعي عواطفك تقودك و لا تدعي أي شيء يقف في طريقك.. أما الآن فأنصحك بالانتباه إلى عملك.. نحن على وشك تنفيذ هذا القصر الذي قمتي انت بتصميمه و تلك الحدائق المتسلقة! لا أريد التحدث في أي شيء غير العمل.. يكفي ما مررنا به من عقبات.

صفاء شعرت بشيء من الخوف من حديث محمود الأخير.. مشوشة واهنة و مرتبكة حد الارتباك.. لكن ليس لها إلا أن تكمل عملها.. قصر سوبا لا بد أن يقف شامخا عما قريب.

..أصوات خلاطات الخرسانة و دولاب الرافعات.. مثل الموسيقى الجميلة على الآذان، سمفونيات تربينا عليها منذ أول تدريب لنا في السنة الثانية.. صفاء تعبت جدا لتسمع هذه الموسيقى بادئة لا تكف حتى النهاية.
* * *

ولكن توقفت الموسيقى يوما بسبب تلك الحادثة.. صفاء عادت إلى نقطة الألم، هذا الهيكل اللعين الذي تحطم في صبيحة اليوم.. وجهت جميع غضبها و إحباطها صوب شركة سعدون الجديدة هذه التي ندمت أنها لم تحقق عنها.. و فكرت أنهم السبب.

حينما وصلت المكتب كان كأنما قامت ثورة فيه قبل لحظات.. د. معتز وهو محمر الوجه و غاضب جدا جدا.. الكثير من البشر متجمعون أمام المكتب يرسمون سيناريوهات للذي حدث..
كيف لمحمود أن يتحمل كل هذا وحده؟ إنها فكرتها منذ البداية و عليها تحمل المسؤولية.. إذن هي المذنبة..
بعدما تمكنت أخيرا من الدخول إلى محمود.. كانت واقفة أمامه كطفل كسر زجاج الجيران للتو بالخطأ.. منكسة الرأس محبطة وموجهة نظرها إلى الأرضية الرخامية. هل هو موقف صمت أم كلام؟ الآن هي لا تدري أي شيء حتى نفسها صارت غريبة عنها.. الآن تشعر أنها...... لا شيء.

صرفها محمود في الحين و أجل الحديث إلى وقت لاحق ليرى حلا لهذه المصيبة.
صفاء لم تستطع أن تربع أطرافها و تكتفي بالمراقبة كما أمرها محمود، إنها مؤمنة أنها مذنبة وعلى المذنب أن يتحمل وزر أخطاءه..
بعد يومين حين طلبت من عمر معتز -والذي كان قد اختفى في ظروف غامضة- أن يقابلها على عجل.. تهرب منها ثم بعد عدة محاولات إصرارية منها فجر فيها حديثا موجعا مما جعل مكانته تهتز في قلبها.. عمر صب جام غضبه على المسكينة صفاء و قرر أن يقطع أي صلة بها. الآن عرفت صفاء أنها وحيدة و أنها فعلا كما قال لها محمود يوما يجب أن تتحكم بعواطفها و لا تدخلها مع العمل.. -يبدو أن عمر لم يتعلم هذا على أية حال!- ''كان الأمر من بدايته غلطة!'' همست لنفسها وهي تنظر لاسم عمر على هاتفها للمرة الأخيرة.


كما نقول بالعامية كانت صفاء ''لافة صينية'' في الأيام الطويلة التي تلت الحادثة المشئومة، لا تدري ما تفعل و كانت ترى أشخاصا يشبهون المحامين يترددون على مكتب محمود مما زاد ارتباكها و قلقها.. ثم أنها سمعت من مروى السكرتيرة عن مواعيد ضبطت لمحاكم!!!
كان عليها أن تتابع الإشراف على أعمال البناء التي لم تتضرر بالحادثة.. إنها ليست نهاية العالم يجب على العمل أن يستمر! هكذا قال محمود.. كان عليها أن ترى آثار الحادثة و كل ذلك الألم يوميا، الذي لن يفارقها شعور انها من تسبب به.


في عصر يوم أحد، وبعد مضي جميع الموظفين تقريبا دعا محمود صفاء إلى مكتبه .. - صفاء رأت إحسان في طريقها إلى مكتب محمود (مهندسة المساحات الخضراء هل تذكرونها؟) كانت مرتبكة غريبة الهندام و أسرعت صوب الباب ما إن رأت صفاء!!

صفاء جلست برهبة.
بنصف ابتسامة و دون أن ينبس بشفة مرر محمود ورقة إلى صفاء..
حملتها صفاء بيديها المرتجفتين و منظر إحسان لا يفارقها.. قرأتها ببطء كطفل يتعلم الهجاء.. غير مصدقة..
تلك كانت ورقة فصل صفاء من الشركة.

حطت دمعتين على تلك الورقة، قررت صفاء ألا تظهرهما لمحمود.. لأنها قوية، أو كانت قوية.. و لم تعود أحدا أن يراها منكسرة و مهزومة.

الكثير من الأسئلة وجدت لها صفاء الإجابة بتلك الورقة : تصرفات محمود، تحمله الكامل للكارثة لوحده دون إشراك صفاء في أي تفصيل، اجتماعاته الطارئة جدا، الكثيرة جدا و الطويلة جدا مع أناس غريبين جدا! جيش المحامين و موظفي الحكومة الغادين و الرائحين من دون توقف!
و لكن بذات الوقت، خلقت الورقة أسئلة جديدة بذهن صفاء..

صفاء فقدت آخر أمل لها، و لم تدر إذا ما كانت هي من خذلت العمارة -التي تحب أكثر من أي شيء- أم العمارة التي خذلتها.
محمود لم يتفوه إلا ببعض الجمل غير المؤثرة و غير المعزية أبدا إلى صفاء، آثرت صفاء على عدم سماع البقية و استئذنت مديرها -السابق- و انصرفت.

حين حطت بقدميها خارج مكتب محمود استشعرت هول المصيبة أكثر، لم يعد هذا بيتها الثاني، لم تعد هي المعمارية الجامحة الواعدة.. شعرت أنها نقطة سوداء لطخت نقاء العمارة.. و ذات النقطة السوداء صارت تلطخ سيرتها الذاتية. إنها حتما نهاية العالم.

أما ما حدث لبيت د. معتز، فقد تدارك محمود المشكلة، تمت إعادة الهيكلة بسرعة و فكرت صفاء أنه غالبا تم إلغاء هياكل حدائقها المتسلقة!
تم تعويض د. معتز مما أثر على محمود و شركته و طاقمه.
لكنها حتى الآن لم تتصور قط أن يكون فصلها حلا للمشكلة، إذن هل يحاول محمود أن يعلمها درسا كما العادة؟ ولكن كان الدرس قاسيا جدا هذه المرة يا محمود!

* * *

بعد مرور الكثير من الوقت.. كانت صفاء قد تجاوزت المحنة بشكل ضئيل، ما تزال تشبه الحاد على عزيز! كان كل ما يهمها أن هل يسير تصميمها وفق الشيء المطلوب؟ لننس أمر الحدائق الغبية، إن بيت د. معتز من أجمل التصاميم التي قامت بها شركة محمود أبدا، إنه تصميم فريد من نوعه يقارب كثيرا إلى تلك التصاميم الرائعة التي نراها في مواقع الانترنت المتقدمة أمثال آرك دايلي و غيره.
لكن صفاء مع الأسف لن تتمكن من الاطمئنان على تصميمها.. إنها لن تستطيع حتى المرور أمام الموقع من بعيد بعد طرد محمود لها و كره معتز و ابنه لها. ثم إن أصغر عامل في ذاك الموقع يعرفها جيدا..
بعد ثلاثة أشهر قررت صفاء أن تخرج من ذلك الدور.. دور الطبيب المتفاني الذي طرد من عمله و ما زال يتابع مع مرضاه.. و بدأت بالتقديم لمكاتب هندسية أخرى.. و لكنها لم تتوفق و لم تدر بسبب قلة الفرص المتوفرة أم بسبب قصتها التي صارت سابقة لها أينما ذهبت!
هل يمكن أن تنتهي حياة المعماري بسبب خطأ و إن عظم؟
هل يمكن أن تنتهي حياة الانسان بسبب خطأ؟ وما العمارة إلا تجسيد الإنسانية الحقة؟

ما زالت تحتفظ برسوماتها الأولية عن هذا البيت الذي كان كل حياتها في تلك الفترة.. كانت تنظر إليها كمن يمعن النظر في صور فقيد.

* * *

تلقت صفاء مكالمة قادمة من رقم قلما يتصل بها.. م.أ/محمود.............
صفاء لم تكره محمود بتاتا، كانت واثقة أنه ما فصلها إلا لمصلحة العمل و المكتب، فكرت في كل هذا قبل أن ترد، بعد أن ردت علمت أنه يدعوها لزيارته في مكتبه بصورة عاجلة.
!!

يقولون بعد أن يضمن المرء يبدأ بالتفرعن :
''عاجلة''؟ فكرت صفاء. أين كانت هذه العجلة طيلة المدة الفائتة؟ أين كانت هذه العجلة حين طردها من مكتبه.. الآن يريدها على عجل؟ هل شعر بعظم الفقد الآن؟
ولم يأخذ صفاء إلى مكتب محمود إلا الفضول..
حينما وصلت كانت تقف واجمة أمام مبنى المكتب كأنك تقف أمام مدرسة كنت قد درست بها في احدى مراحلك، أو أمام بيت كنت تقطنه يوما و يحمل الذكريات..
كانت شركة محمود لصفاء البيت و المدرسة و الذكريات.

استقبلها الموظفون بالترحيب و بعبارات الشوق الباردة و الزائفة.


- اجلسي ارجوكي عزيزتي صفاء.
''ما زال يدعوها بعزيزتي... هه يا للترف!''
- نعم سيدي ما هو الأمر الذي دعوتني لأجله على عجل؟
- صفاء انت تدرين أني لا أحب المقدمات..
- أدري.
- فأنا أريد عودتك إلى مكتبي..

صفاء ما بين غير مصدقة و سعيدة و غاضبة و واوهنة نفسيا من كثر ما حلمت بهذه اللحظة.. و لكن ما تفوهت به كان شيئا آخر :
- سيدي أنا آسفة، لن.... (يقاطعها محمود)
- توقعت أن ترفضي مع أني أرى الفرحة في عينيك.. بسبب كرامتك أليس كذلك؟ و لكن دعيني أشرح لك ما كان يجب أن تعرفيه منذ وقت طويل.. بعد أن وقعت الحادثة في منزل د. معتز و قمت بالتحقيق وجدت أن سبب تحطم الهيكل لم يكن من المدنيين أو خطأ في حساباتهم، أو خطأ من الرسومات المعمارية أو تفاصيلها.. و ليس خطأ في تقرير فحص التربة..
- إذن عفوا مم كان؟
- كان خطأ في حساب الكميات BOQ
- حساب كميات الهيكل الخرساني؟
- نعم حساب كميات الهيكل الخرساني و الذي قمتي انت به، هل تذكرين أنك قمتي بأي خطأ أو توقفت عند أي شيء؟
- أذكر أنه كان طويلا و معقدا بعض الشيء و لكنه تمت مراجعته من قبلك ولم يكن من خطأ يذكر..
- حساب الكميات ليست كالرسومات، لا يفهمها كلية إلا واضعها، ثمة بعض الأخطاء التي اذا لم ينتبه لها حاسب الكميات مستحيل أن يتنبه لها رئيسه أو أيا كان!
- نعم أعرف هذا النوع من الأخطاء.. لقد وقعت به قبلا لكني تداركته..
- يبدو أنك لم تتداركيه هذه المرة
- أنا غير مصدقة!
- لم آت بك الآن لأوجع قلبك أكثر.. إن هذا الخطأ كان يمكن أن يحدث لأي منا
صفاء صامتة و ما زالت غير مصدقة.
- حتما انت تتسائلين الآن لماذا قمت بفصلك إذن؟
- بالطبع سيدي..
- هل تدرين عقوبة حساب الكميات الخاطئة؟
- ليس تماما..
- السجن!
- هل تعني أنني كنت سوف أحبس؟
- هذا ما كان ليحدث، لولا أنني قمت بفصلك لحمايتك، و تحملت المسؤولية و دفعت غرامة مالية كبيرة.. و قمنا بفصل كل من له يد في هذا حتى نحميه من العقوبة الظالمة، بعقوبة أهون منها..
(الآن تذكرت صفاء مهندسة المساحات الخضراء إحسان!)
- هذا كل شي.
إذن محمود فعلا قد أنقذها من سجل إجرامي و محاكم و ... حبس؟ هل كانت لتتخيل؟ لم تدر هل تفرح أم تحزن.. لقد تسببت في الكثير من الضرر.
قطع محمود أفكارها :
- أما الآن فانت تتسائلين لم أريد عودتك إلى مكتبي، انظري يا صفاء، إن الخطأ الذي اقترفته جسيم ولا شك و تستحقين العقاب عليه، و قد عوقبت بالفصل لستة أشهر..
- عفوا سيدي، كيف يرضى المجلس أن يتم تحويل عقوبة السجن إلى الفصل فقط؟
- الفصل و عدم ممارسة المهنة لمدة ٦ أشهر..
- أتعني أنه كان محرم علي ممارسة العمارة طيلة الستة أشهر؟
- نعم.
- ما زلت غير مقتنعة، لا تتساوى الكفتان!
- لقد قمت بمساومة صغيرة اضطررت لها و كانت بأخف الأضرار الممكنة، فلا بأس.. لا زالت بهم حتى رضخوا لمطلبي.
- لن أستطيع الكف عن شكرك سيدي.
- لا أريد شكرك، أنا متأكد انك لن تقعي في خطأ كهذا مرة أخرى.. إذا عوقب كل معماري على خطأ للأبد فلن يتبق معماري على هذه الأرض. هل تدرين أن كلا من لوكوربوزييه و ميزفانديروه وقعا في أخطاء جسيمة كانا إذا ما وقفا عليها فلا بد أننا لم نكن لنسمع عنهما أو نستفيد من علمهما، أليس كذلك؟
على المعماري أن يثق بقدراته و أن يتطلع دائما إلى الجديد و لكن عليه ألا يقحم نفسه وألا يكلفها فوق طاقتها حتى لا يقع في الخطأ. أما انت فقد أتيت بفكرة مختلفة و آمنت أنه يمكن أن تنفذ على أرض واقعنا و هذا أول ما أعجبني بفكرتك، و كان علينا ألا نخمد حماسنا الذي اتقد مبكرا بوجود أي عقبة. و هاهي اليوم مرورا بكل شي نفذت بنجاح و سوف نذهب لزيارة الموقع اليوم سويا! :)
- هل تعني أنك نفذت فكرتي فعلا؟ الحدائق المعلقة؟
- بالتأكيد!

صفاء كانت في قمة فرحها.. شعرت أنها ستعود تلك المعمارية الشغوفة.. هي فعلا غدت معمارية ذهبية بعد تنفيذ تصميمها ثم الفكرة الجديدة.. والآن بعد كل الذي فعله محمود لأجلها أعاد لها الثقة المفقودة.
كان لدى صفاء سؤال أخير :
- هل هو صابر ؟
- لا لم يكن صابر المهندس المدني بالطبع، هه و كأن صابرا تنبأ بوقوع كارثة بانسحابه! لم يكن صابر و لكنه عاد للعمل معنا في مشاريع أقل خطرا.. هههه!! إنهم سعدون الهندسية وما زلنا نتعامل معه أحيانا. و الآن أليس لديك شخص آخر لتسألي عنه؟
- شخص آخر؟
- نعم! ؛) -وابتسامة خبيثة-
- انت بالتأكيد تقصد عمر معتز..
- هو بعينه، إنه ينتظرك في معمله بأعلى الشجرة الصناعية التي شيدتها انت لأجله!
- لا، أنا غاضبة عليه.. سوف لن..... (يقاطعها)
- سامحيه، كان جزءا من الخطة.
- لا أصدق أنك أقحمته في خططك حتى! لا أصدق أنك فعلت بي هذا، ألم.............................. (..............)
و انفتحت صفاء و بدأت بالصراخ و أخرجت كل ما مرت به في أشهرها التي خلت... و كان محمود يضحك ملء فيه.
محمود حقا معماري كامل لا مثيل له.

صفاء تعلمت الدرس و فكرت أن كل شيء يهون في سبيل تحقيق المراد من عمارة غير اعتيادية! و رددا معا :

''على المعماري أن يفعل ما يجب على المعماري فعله


النهاية
ريان خليل












2 comments: