الطريق إلى المدينة الزرقاء
حطت عجلات الطائرة على المدرج الهاديء لتوقظ الأرض النائمة تحتها، كأن تلك العجلات قد عادت إلى موطنها من رحلة طويلة.
صفاء المعمارية اليافعة*،حينما وطئت قدماها أرض المطار.. ببواباته الضخمة .. نسيت أن تتنفس.
تقدمت نحو الطريق المليء بسيارات الأجرة، استطاعت أن تتنفس كي تدع هواء العاصمة الأوزبكية يتعمق داخلها ،إنه نفس الهواء، لم يتغير منذ آخر زيارة لها إلى أوزبكستان قبل أكثر من خمسة عشر عاماً...
يا إلهي ما الذي أتى بي إلى هنا؟ فكرت صفاء و هي في قمة السعادة.. إنها الرحلة الأولى في قائمة طويلة ..
لمـــاذا أوزبكســــتان؟
صفاء، التي تحب العمارة التاريخية أكثر من أي شيء، كان لا بد لها أن تزور بوابة الشرق و أهم معالم المعمارالتركي و الفارسي.
ربما رؤيتها لكل تلك المنشآت المهيبة في صغرها كوّن حبها المبكر للعمارة الإسلامية القديمة.
فالحقيقة ان صفاء قد زارت أوزبكستان عام 1997 بعد مرور سبعة أعوام على استقلال البلاد من الجيش الأحمر فتحولت من جمهورية أوزبكستان الإشتراكية السوفييتية إلى جمهورية أوزبكستان الفيدرالية.**
خطت خارج بوابات صالةالوصول لمطار طشقند.. أحست بنسمات ليل المدينة الرطب..
ها هو سائق سيارة التاكسي الأوزبكي (أو ربما الكازاخي***) يساعدها في رفع حقيبتها الوحيدة ، يبدو فضولياً كما هم أهل مدينته، تنبش صفاء من ذاكرتها بعض الروسية التي تعلمتها في صغرها و تُعْلِم السائق بوجهتها ..
فندق أوزبكستان ،اختارته لعتاقته و غناه المعماري..
يندهش السائق من روسية صفاء ، فيحدثها :
- مسلمان؟
- دااه ، أرابسكي (نعم،عربية)
- أووو مرحبات مرحبات ..
فندق أوزبكستان حتماً من أجمل فنادق طشقند، فندق أربعة نجوم تم بناءه في العهد السوفييتي.. يتبين أنه تم ترميمه مؤخراً.
صفاء قررت أن تمتع ذخيرتها المعمارية بنوع مختلف من العمارة هذه الليلة، فالعمارة الإسلامية تنتظرها غداً في سمرقند......
تفاصيل العمارة الحديثة الأولى التي شيد بها فندق أوزبكستان تستحوذ على العين، هذه الحوائط الضخمة من الحجر االحديث الذي يبدو كأنه استخدم لأول مرة هنا في تاريخ العمارة الحديثة.
تقنية معالجات الواجهات به ذكية جدا و تخدم الوظيفة..
لمحات من الإشتراكية الطويلة القاسية تتحدث بها الجدران و الفتحات.
..
تبصر صفاء سيارة التاكسي و هي تقفز مبتعدة على الأسفلت الأسود بحبات فضيةتحت ضوء القمر..
بلاد ما وراء النهرين
طشقند في اللغة تعني مدينة الحجر..
تستيقظ صفاء على صوت بائع الحليب وهو يصرخ في ساعات الصباح الأولى : ملاااكووووو (حليييييب)
لا تكاد تصدق أذنيها.. هذه المدينة لا تتغير أبداً ..
ربما أجزمت صفاء أنه نفس صوت بائع الحليب الذي استيقظت عليه في إحدى صباحات عام سبعة و تسعين .
تفتح نافذة غرفة الفندق فتجدها تطل على أحد أنهار أوزبكستان ..
صفاء لا تدري ما إذا كان هذا هو نهر سيحون الذي كتبت عنه الأساطير الأوزبكية انه من أنهار الجنة.. لكنه بالنسبة إليها في تلك اللحظات كان هو.
نهر سيحون هو أحد النهرين اللذين سميت عليهما أوزبكستان، أما الثاني فهو نهر جيحون.
ياله من صباح.. تأملت النهر و هو يعانق كرة اللهب الذهبية ..
من على هذه الضفاف جاء المماليك وحط التتار و سارت قوافل الحرير .. ثم تبدد زمنهم كالحلم..
ثم أتى الروس و البلاشفة الحمر ..سادوا كأنهم لن يبادوا ..
يا لهذه الأرض الغنية بالتاريخ!
همست صفاء في أثير طشقند : سبحان من يرث الملك و الملكوت.
يتوقف بائع الحليب ظاناً منه انها تحدثه
تضحك إليه صفاء و تصرخ : دوبري أوترم! (صباح الخير)
يفطن البائع إلى انها لن تشتري منه حليباً في نهاية الأمر ويتابع طريقه و –ربما- يفكر "هؤلاء السياح"!!
الساعة تقترب من السابعة .. عليها أن تلحق بالحافلةالمتوجهة إلى سمرقند!
اليوم ستقابل صفاء سلمان كريموف (صديق محمود)**** سيكون في انتظارها في سمرقند..
تتوجه صفاء إلى موقف الحافلات في طريق الحرير المتجهة إلى كل بقاع أوزبكستان، تود لو تتمكن من القفز فيها جميعاً مرة واحدة!
ها هي حافلة سمرقند ..
المدينة الزرقاء..
صفاء أرادت السفر بالحافلة لتقترب من الشعب الأوزبكي المتباين الثاقافات و المستويات الإجتماعية.
وجوه بيضاء اكسبتها الشمس حمرة متقدة
عيون لها ذات زرقة المدينة
ملامح غريبة و أخرى منحوتة أشبه برسم خيالي لشخصيات من الأسلاف الغابرين
لطخات من فرشاة –ربما- قدسية في لحظات الخلق الأولى
نسوة أوزبكيات باللباس الشعبي ذي الألوان الكثيرة و الزاهية
شباب روسيون بعيونهم الخضر و رؤوسهم الشقراء
و هذا فلاح كازاخي .. يرتدي الطاقية الأوزبكية
و هذه امرأة غجرية من على حدود تركمانستان
و هذا طالب ربما متوجه إلى احدى مدارس سمرقند المعمارية التاريخية!
إن أوزبكستان تحتضن مئة و ثلاثين جنسية مختلفة.
تجلس صفاء في المقعد المجاور للنافذة.. يجلس في المقعدالمجاور لها شاب عشريني هجين الملامح لا تكاد تجزم جنسيته، وجهه محتقن البياض بعيون زرقاء وشعر أسود! يحمل كتاباً عليه نقوش كوفية ..
إنه لشيء يبعث على الغبطة دون شك! انظروا إلى هذه الأجيال غير العربية التي تهتم بالثقافة العربية و الإسلامية!
إنها أوزبكستان بلاد عالم الجبر الخوارزمي و الإمام البخاري.
أهل طشقند اجتماعيون، لابد أن يبتسم لك جليسك الغريب في الرحلة، تجتمع بهم لباقة الغرب و سماحة الشرق.
تبادل صفاء الشاب التبسم، و ينظران خارج النافذة إلى الأرض الدابة على التحرك..
تخترق الحافلة شوارع زاهية الخضرة تظللها أشجار عملاقة تكادتحجب السماء ..
الرحلة طويلة ، ربما تستغرق ثلاث ساعات و ربما أكثر..
يتحدث الشاب الجالس بقربها بصوت عميق :
- أرابسكي؟ (عربية؟)
- داا .. روسكي؟ (نعم .. روسي؟)
- كلا، أوزبكي..
- آه انت تتحدث العربية!
- تشُت تشُت (قليلاً)
- من أين تعلمت العربية؟
- أبي كان يعمل في دمشق في التسعينات
- ياا زلمي!
- هههه، وانت من أين تعلمت الروسية؟
- كان أبي يعمل في روسيا في التسعينات كذلك..
يضحكان سوياً .. تبادر صفاء النظر إلى كتابه ..
- ماذا تقرأ؟
- جلال الدين الرومي
- جميل جداً! أحب شعره كثيراً
- من أين انت أيتها العربية؟
- من السودان؟
- آه لم أرها قط و لكني قابلت بعض السودانيين في سوريا و تركيا.. إنهم شعب كريم و طيب.
- اوو شكراً لك .. نحن كذلك. قل لي كيف تبدو تركيا؟
- لن أقول سوى أن عليك زيارتها!
- هذا ما اعتزمته.. انظر إلى هذه القائمة
- و لديك قائمة :]
تريه صفاء ورقتها السحرية فيقرأها باهتمام ..
- سمرقند (اوزبكستان) – كييف (اوكرانيا) – لننغراد(روسيا) – اسطنبول – أرمينية – مدريد – روما
- ثمة ما يجمع بين هذه الأماكن. فما هو؟
- نعم، المعمار التاريخي.
- انت معمارية إذن
- نعم،إن العمارة أسلوب حياة و ليس مهنةفقط. و هذه الأماكن غنية بالعمارة الإسلامية و المسيحية.
- إنه شيء جميل حقاً، أحسنت باختيار سمرقند ووضعها على رأس القائمة.. إن العمارة الإسلامية في سمرقند في غاية الجمال!
- أدري، قد زرتها قبل ستة عشر عاماً و لكني كنت صغيرة و كم أتحرق شوقاً إليها من جديد.
- لم تتغير سمرقند، جغرافيتها و تاريخها.. و لكنهم يقولون ان الزمان تغير فهجرها و لم يعد يلحظ وجودها بين سطوره، و هذا غير صحيح،فقد تحولت من بلاد تنتظر على عتبة التاريخ إلى المجد.
- هل هم السوفييت من أعادوا إليها مجدها؟
- كلا، سمرقند من أقدم مدن التاريخ، وجدت قبل أكثرمن ألفي عام، قد احتلها الاسكندر ثم الأتراك ثم جنكيز خان ثم الإشتراكيون ..سمرقند مدينة قوية و صامدة!
- هذا صحيح، مع الأسف فتاريخها غير معروف لدى العرب كفايةً برغم أهميته، و بالنسبة للمعماريين فنحن نعرف أعلام العمارة الغربية و لا نعرف جميع تاريخ عمارتنا..
- يجب أن تدعي كل المعماريين لزيارة سمرقند!
- نعم........
- لم أسألك عن اسمك أيتها المعمارية
- صفاء
- مصطفى
- بريفيانتو (تشرفت بمعرفتك)
- بريفيانتو توجا (تشرفت بمعرفتك أيضاً)
- لغتك الروسية سيئة للغاية هههه!يضحكان ..
لا تأخذ طشقند في الإبتعاد.. و لكن زرقة المدينة تتراءى من على بعد..
كتل من المباني الاسمنتية المتشابكة و المتشابهة في كل شيء ..
ريف طشقند الصباحي البطيء
بقايا حزينة من أيام الإشتراكية القديمة ..
تزيحها أبراج عملاقة من الصلب تلوح في الأفق..
حلم المساواة الذي تحول إلى كابوس..
ثم شواهد الإنفتاح و العصر الجديد..
- هل تدرين أن جلال الدين الرومي تحدث عن سمرقند؟
- حقاً؟ ماذا قال؟
- ليتني.. كنت قنديلاً .. في ليالي سمرقند.
- ليتني أنا أيضاً، فإني أحفظ له قوله : لعل الأشياء البسيطة هي أكثر الأشياء تميزاً و لكن ليس كل عين ترى.
- و قال : ما تبحث عنه يبحث عنك.
- كنت أعلم أن سمرقند تتوق إليّ كما أتوق إليها...
طريق الحرير، هو هذا الطريق الذي يمكّنكَ من التنقل بين مدن أوزبكستان ، سمرقند و بخارى و كيفا (خوارزم) ..
إنه طريق معبّدبالتاريخ!
تمضي الساعات والمحادثات التي تبدو كأنها لن تنتهي..
تلوح سمرقند في الأفق راقدة في زرقة بهية، بتوجس و بطء تبرز أسوارها الشامخة المزينة بالفسيفساء الزرقاء..
تكاد ترى نقوش الطواويس على الجدران العالية بذيولها الملونة المرفوعة إلى السماء تحيط بها زخارف من الآيات القرآنية.
ما تزال بعيدة رغم تقارب القلوب، و قبل بضعة عشر كيلومتراً تتوقف الحافلة في محطة قرية خرجينت.
تقفز صفاء من مقعدها في حركة سريعة كي لا تفوتها المحطة..
يقول مصطفى :
- ظننتك ذاهبة إلى سمرقند!
- *****لا بد أن تبدأ الرحلة بزيارة الإمام...
يـــتــــبـــــع ...
*صفاء : بطلة المجموعة السابقة مذكرات معمارية
** لمزيد من الثقافة http://ar.wikipedia.org/wiki/أوزبكستان
***كازاخي : نسبة إلى كازاخستان
*****محمود : مدير صفاء (راجع مذكرات معمارية) https://www.facebook.com/notes/rayan-khalil/مذكرات-معمارية/582187281809776
***** قبر الإمام البخاري
حطت عجلات الطائرة على المدرج الهاديء لتوقظ الأرض النائمة تحتها، كأن تلك العجلات قد عادت إلى موطنها من رحلة طويلة.
صفاء المعمارية اليافعة*،حينما وطئت قدماها أرض المطار.. ببواباته الضخمة .. نسيت أن تتنفس.
تقدمت نحو الطريق المليء بسيارات الأجرة، استطاعت أن تتنفس كي تدع هواء العاصمة الأوزبكية يتعمق داخلها ،إنه نفس الهواء، لم يتغير منذ آخر زيارة لها إلى أوزبكستان قبل أكثر من خمسة عشر عاماً...
يا إلهي ما الذي أتى بي إلى هنا؟ فكرت صفاء و هي في قمة السعادة.. إنها الرحلة الأولى في قائمة طويلة ..
لمـــاذا أوزبكســــتان؟
صفاء، التي تحب العمارة التاريخية أكثر من أي شيء، كان لا بد لها أن تزور بوابة الشرق و أهم معالم المعمارالتركي و الفارسي.
ربما رؤيتها لكل تلك المنشآت المهيبة في صغرها كوّن حبها المبكر للعمارة الإسلامية القديمة.
فالحقيقة ان صفاء قد زارت أوزبكستان عام 1997 بعد مرور سبعة أعوام على استقلال البلاد من الجيش الأحمر فتحولت من جمهورية أوزبكستان الإشتراكية السوفييتية إلى جمهورية أوزبكستان الفيدرالية.**
خطت خارج بوابات صالةالوصول لمطار طشقند.. أحست بنسمات ليل المدينة الرطب..
ها هو سائق سيارة التاكسي الأوزبكي (أو ربما الكازاخي***) يساعدها في رفع حقيبتها الوحيدة ، يبدو فضولياً كما هم أهل مدينته، تنبش صفاء من ذاكرتها بعض الروسية التي تعلمتها في صغرها و تُعْلِم السائق بوجهتها ..
فندق أوزبكستان ،اختارته لعتاقته و غناه المعماري..
يندهش السائق من روسية صفاء ، فيحدثها :
- مسلمان؟
- دااه ، أرابسكي (نعم،عربية)
- أووو مرحبات مرحبات ..
فندق أوزبكستان حتماً من أجمل فنادق طشقند، فندق أربعة نجوم تم بناءه في العهد السوفييتي.. يتبين أنه تم ترميمه مؤخراً.
صفاء قررت أن تمتع ذخيرتها المعمارية بنوع مختلف من العمارة هذه الليلة، فالعمارة الإسلامية تنتظرها غداً في سمرقند......
تفاصيل العمارة الحديثة الأولى التي شيد بها فندق أوزبكستان تستحوذ على العين، هذه الحوائط الضخمة من الحجر االحديث الذي يبدو كأنه استخدم لأول مرة هنا في تاريخ العمارة الحديثة.
تقنية معالجات الواجهات به ذكية جدا و تخدم الوظيفة..
لمحات من الإشتراكية الطويلة القاسية تتحدث بها الجدران و الفتحات.
..
تبصر صفاء سيارة التاكسي و هي تقفز مبتعدة على الأسفلت الأسود بحبات فضيةتحت ضوء القمر..
بلاد ما وراء النهرين
طشقند في اللغة تعني مدينة الحجر..
تستيقظ صفاء على صوت بائع الحليب وهو يصرخ في ساعات الصباح الأولى : ملاااكووووو (حليييييب)
لا تكاد تصدق أذنيها.. هذه المدينة لا تتغير أبداً ..
ربما أجزمت صفاء أنه نفس صوت بائع الحليب الذي استيقظت عليه في إحدى صباحات عام سبعة و تسعين .
تفتح نافذة غرفة الفندق فتجدها تطل على أحد أنهار أوزبكستان ..
صفاء لا تدري ما إذا كان هذا هو نهر سيحون الذي كتبت عنه الأساطير الأوزبكية انه من أنهار الجنة.. لكنه بالنسبة إليها في تلك اللحظات كان هو.
نهر سيحون هو أحد النهرين اللذين سميت عليهما أوزبكستان، أما الثاني فهو نهر جيحون.
ياله من صباح.. تأملت النهر و هو يعانق كرة اللهب الذهبية ..
من على هذه الضفاف جاء المماليك وحط التتار و سارت قوافل الحرير .. ثم تبدد زمنهم كالحلم..
ثم أتى الروس و البلاشفة الحمر ..سادوا كأنهم لن يبادوا ..
يا لهذه الأرض الغنية بالتاريخ!
همست صفاء في أثير طشقند : سبحان من يرث الملك و الملكوت.
يتوقف بائع الحليب ظاناً منه انها تحدثه
تضحك إليه صفاء و تصرخ : دوبري أوترم! (صباح الخير)
يفطن البائع إلى انها لن تشتري منه حليباً في نهاية الأمر ويتابع طريقه و –ربما- يفكر "هؤلاء السياح"!!
الساعة تقترب من السابعة .. عليها أن تلحق بالحافلةالمتوجهة إلى سمرقند!
اليوم ستقابل صفاء سلمان كريموف (صديق محمود)**** سيكون في انتظارها في سمرقند..
تتوجه صفاء إلى موقف الحافلات في طريق الحرير المتجهة إلى كل بقاع أوزبكستان، تود لو تتمكن من القفز فيها جميعاً مرة واحدة!
ها هي حافلة سمرقند ..
المدينة الزرقاء..
صفاء أرادت السفر بالحافلة لتقترب من الشعب الأوزبكي المتباين الثاقافات و المستويات الإجتماعية.
وجوه بيضاء اكسبتها الشمس حمرة متقدة
عيون لها ذات زرقة المدينة
ملامح غريبة و أخرى منحوتة أشبه برسم خيالي لشخصيات من الأسلاف الغابرين
لطخات من فرشاة –ربما- قدسية في لحظات الخلق الأولى
نسوة أوزبكيات باللباس الشعبي ذي الألوان الكثيرة و الزاهية
شباب روسيون بعيونهم الخضر و رؤوسهم الشقراء
و هذا فلاح كازاخي .. يرتدي الطاقية الأوزبكية
و هذه امرأة غجرية من على حدود تركمانستان
و هذا طالب ربما متوجه إلى احدى مدارس سمرقند المعمارية التاريخية!
إن أوزبكستان تحتضن مئة و ثلاثين جنسية مختلفة.
تجلس صفاء في المقعد المجاور للنافذة.. يجلس في المقعدالمجاور لها شاب عشريني هجين الملامح لا تكاد تجزم جنسيته، وجهه محتقن البياض بعيون زرقاء وشعر أسود! يحمل كتاباً عليه نقوش كوفية ..
إنه لشيء يبعث على الغبطة دون شك! انظروا إلى هذه الأجيال غير العربية التي تهتم بالثقافة العربية و الإسلامية!
إنها أوزبكستان بلاد عالم الجبر الخوارزمي و الإمام البخاري.
أهل طشقند اجتماعيون، لابد أن يبتسم لك جليسك الغريب في الرحلة، تجتمع بهم لباقة الغرب و سماحة الشرق.
تبادل صفاء الشاب التبسم، و ينظران خارج النافذة إلى الأرض الدابة على التحرك..
تخترق الحافلة شوارع زاهية الخضرة تظللها أشجار عملاقة تكادتحجب السماء ..
الرحلة طويلة ، ربما تستغرق ثلاث ساعات و ربما أكثر..
يتحدث الشاب الجالس بقربها بصوت عميق :
- أرابسكي؟ (عربية؟)
- داا .. روسكي؟ (نعم .. روسي؟)
- كلا، أوزبكي..
- آه انت تتحدث العربية!
- تشُت تشُت (قليلاً)
- من أين تعلمت العربية؟
- أبي كان يعمل في دمشق في التسعينات
- ياا زلمي!
- هههه، وانت من أين تعلمت الروسية؟
- كان أبي يعمل في روسيا في التسعينات كذلك..
يضحكان سوياً .. تبادر صفاء النظر إلى كتابه ..
- ماذا تقرأ؟
- جلال الدين الرومي
- جميل جداً! أحب شعره كثيراً
- من أين انت أيتها العربية؟
- من السودان؟
- آه لم أرها قط و لكني قابلت بعض السودانيين في سوريا و تركيا.. إنهم شعب كريم و طيب.
- اوو شكراً لك .. نحن كذلك. قل لي كيف تبدو تركيا؟
- لن أقول سوى أن عليك زيارتها!
- هذا ما اعتزمته.. انظر إلى هذه القائمة
- و لديك قائمة :]
تريه صفاء ورقتها السحرية فيقرأها باهتمام ..
- سمرقند (اوزبكستان) – كييف (اوكرانيا) – لننغراد(روسيا) – اسطنبول – أرمينية – مدريد – روما
- ثمة ما يجمع بين هذه الأماكن. فما هو؟
- نعم، المعمار التاريخي.
- انت معمارية إذن
- نعم،إن العمارة أسلوب حياة و ليس مهنةفقط. و هذه الأماكن غنية بالعمارة الإسلامية و المسيحية.
- إنه شيء جميل حقاً، أحسنت باختيار سمرقند ووضعها على رأس القائمة.. إن العمارة الإسلامية في سمرقند في غاية الجمال!
- أدري، قد زرتها قبل ستة عشر عاماً و لكني كنت صغيرة و كم أتحرق شوقاً إليها من جديد.
- لم تتغير سمرقند، جغرافيتها و تاريخها.. و لكنهم يقولون ان الزمان تغير فهجرها و لم يعد يلحظ وجودها بين سطوره، و هذا غير صحيح،فقد تحولت من بلاد تنتظر على عتبة التاريخ إلى المجد.
- هل هم السوفييت من أعادوا إليها مجدها؟
- كلا، سمرقند من أقدم مدن التاريخ، وجدت قبل أكثرمن ألفي عام، قد احتلها الاسكندر ثم الأتراك ثم جنكيز خان ثم الإشتراكيون ..سمرقند مدينة قوية و صامدة!
- هذا صحيح، مع الأسف فتاريخها غير معروف لدى العرب كفايةً برغم أهميته، و بالنسبة للمعماريين فنحن نعرف أعلام العمارة الغربية و لا نعرف جميع تاريخ عمارتنا..
- يجب أن تدعي كل المعماريين لزيارة سمرقند!
- نعم........
- لم أسألك عن اسمك أيتها المعمارية
- صفاء
- مصطفى
- بريفيانتو (تشرفت بمعرفتك)
- بريفيانتو توجا (تشرفت بمعرفتك أيضاً)
- لغتك الروسية سيئة للغاية هههه!يضحكان ..
لا تأخذ طشقند في الإبتعاد.. و لكن زرقة المدينة تتراءى من على بعد..
كتل من المباني الاسمنتية المتشابكة و المتشابهة في كل شيء ..
ريف طشقند الصباحي البطيء
بقايا حزينة من أيام الإشتراكية القديمة ..
تزيحها أبراج عملاقة من الصلب تلوح في الأفق..
حلم المساواة الذي تحول إلى كابوس..
ثم شواهد الإنفتاح و العصر الجديد..
- هل تدرين أن جلال الدين الرومي تحدث عن سمرقند؟
- حقاً؟ ماذا قال؟
- ليتني.. كنت قنديلاً .. في ليالي سمرقند.
- ليتني أنا أيضاً، فإني أحفظ له قوله : لعل الأشياء البسيطة هي أكثر الأشياء تميزاً و لكن ليس كل عين ترى.
- و قال : ما تبحث عنه يبحث عنك.
- كنت أعلم أن سمرقند تتوق إليّ كما أتوق إليها...
طريق الحرير، هو هذا الطريق الذي يمكّنكَ من التنقل بين مدن أوزبكستان ، سمرقند و بخارى و كيفا (خوارزم) ..
إنه طريق معبّدبالتاريخ!
تمضي الساعات والمحادثات التي تبدو كأنها لن تنتهي..
تلوح سمرقند في الأفق راقدة في زرقة بهية، بتوجس و بطء تبرز أسوارها الشامخة المزينة بالفسيفساء الزرقاء..
تكاد ترى نقوش الطواويس على الجدران العالية بذيولها الملونة المرفوعة إلى السماء تحيط بها زخارف من الآيات القرآنية.
ما تزال بعيدة رغم تقارب القلوب، و قبل بضعة عشر كيلومتراً تتوقف الحافلة في محطة قرية خرجينت.
تقفز صفاء من مقعدها في حركة سريعة كي لا تفوتها المحطة..
يقول مصطفى :
- ظننتك ذاهبة إلى سمرقند!
- *****لا بد أن تبدأ الرحلة بزيارة الإمام...
يـــتــــبـــــع ...
*صفاء : بطلة المجموعة السابقة مذكرات معمارية
** لمزيد من الثقافة http://ar.wikipedia.org/wiki/أوزبكستان
***كازاخي : نسبة إلى كازاخستان
*****محمود : مدير صفاء (راجع مذكرات معمارية) https://www.facebook.com/notes/rayan-khalil/مذكرات-معمارية/582187281809776
***** قبر الإمام البخاري
No comments:
Post a Comment